فها هي عيني لا تتخطّاني عندَما أجدُ لوحةً لا تضجُّ إلا بأنفاس ريزاني الذي يضخُّ فيّ الإحساسَ بقسوة السّنوات التي باعدتني عنه ، وهو الذي يعيشُ في بلاد الضباب والثلوج والزمهرير. وما كان يتحمّل ذاكَ الثالوثَ البغيض . أتقرّى أخبارَ ريزاني من بعيد . فيُقالُ لي بأنّ غرفة زمهريريّة الأركان تحتلُّه ، وتُلقي به بغضاءُ الثلج والضباب والزمهرير في متاهاتها، و ما كان لريزاني إلا كلُّ الأمكنة لتحتويه مع تمرّده ، فحريٌّ به أنْ يجرّبَ أمكنة باشلار ليهندسَها على مقاس موسيقاه ولونه في مهبط روحه “عامودا” التي نسيَ جيلٌ كاملٌ فيها : مَنْ هو سعيد ريزاني ؟ وهو الذي غنّى له ولمستقبله وخطّط لحياة ذاك الجيل قبلَ أنْ يُولد . ريزاني حَبّبَ إلينا آلة العود : هكذا قالَ أبناءُ جيلي .أهكذا نُقاضي مبدعَنا ؟ فهل وجدتَم غبناً وتناسياً مثل ما أراه ؟ أم أنّ ذاكرتَنا خُلِقتْ للنسيان فقط ؟
وللأمانة أسجّلُ ملاحظة تخصّني وهي أنّ تظاهرة ليليّة خرجتْ صدّاحةً بصوت ريزاني للمرّة الأولى في الهواء الطلق، وكان الشابُ الواقفُ بجانبي قد أهداني الأغنية تلك ، وكأنّه يقراُ صفحة حياتي .
جرّبَ ريزاني أمكنة غيرَ عامودا الباهتة ليقينه أنّ المكانَ الواحد مثل اللون الواحد يقتلُ ويميّعُ صوتَ اللوحة ولونَ الموسيقا ، فما كان لريزاني إلا أنْ يجرّبَ مدناً سوريّة بفضاءٍ من البيوت ، لا يَشبَع ولا يُشبَعُ من بيتٍ في الشرق إلا ويُذهَب به إلى بيتٍ في الغرب، وهو الكسيح ( و ه و – ا ل ك س ي ح )! و لكنّه المدجَّجُ بالحبّ والطفولة والذكريات .سعيد ريزاني الكسيح ، وكانَ يجبُ عليه وحدَه أنْ يمشيَ على مناكب الأرض و جهاتِها ، وينشدَ لحناً في الغرب ليسمعَه مَنْ في الشرق أو أنْ يرسمَ لوحةً يتملّاها مهمّشٌ ما، فيحتدُّ المهمّشون بالقول:ذاك الطفل المُمَزّق الثياب والحافي وفي يده خبزُ ملّة : أنا.
رافقتُ أحاسيسَ ريزاني حين رَسَمَ جداريّة “غوركي” في بيتنا ، ورافقتُه إلى مطار دمشقَ وهو يختفي بينَ بسمات القادمين ومناديل المودّعين قبلَ عقود ، وفي ليلةِ وداعِهِ طلبتُ منه أنْ يغنّي : ” عامودا عشُّ فراشاتٍ وصور ووجوهُ تماثيل وقمر “ورأيتُ قاسيونَ تهتزُّ أركانُها،وبيوتُ الصّفيح فيها لألحانه ،حينها.... حينها فقط وَقَرَ في نفسي الأمّارة بالتكهّن والتأكيد أنّ ريزاني لن يعودَ إلى مدينة ” الفراشات والصور والتماثيل “.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق