أربعة أعوام مرّت عليّ وأنا في هانوفر أعضّ على الحنين ﻷبتلعَه أو ﻷكسّره، لكني أعودُ خائباً...مدحوراً.
هذه اﻷعوامُ اﻷربعةُ كأنها أربعةُ قرون أو أربعة أيّام، هذا الإحساس الغضُّ بجهل الزمن جعلني كرةً مطّاطيةً يتقاذفها الحاضرُ ليرميها للماضي، إلى درجة أنّ الحاضر والسابق باتا غولاً يتحكّمُ في القادم من أيّامي ليقضي عليّ.
...
تشرقُ الشمسُ من الغرب ، هذه ليست نكتةً سمجةً، فالاتجاهاتُ تتغيّر في هذه المدينة التي تتكلّم بعشرات اللغات التي لا أُتقنُها، مجرّد أن أقطع شارعاً ﻵخرَ يصبحُ الجنوبُ شمالاً.
ينقلُني خطوي إلى شارعٍ آخرَ فألتفتُ خلفي ﻷرى أوراقَ الشجر تَغيَّرَ لونُها من اﻷخضر إلى اﻷصفر،وﻷرى جموع البشر يتطاير في السماء.
هل كان شاكال هنا؟
....
طريقُ بيتي حانةٌ ومقهى وجارةٌ عجوز من كوبا تراقب المارّةَ من شبّاكها وتستوقفهم..تتحدّثُ معهم بلغتها التي لا يفهمونها،فتغضبُ وتحتدُّ،فتصفعُ الشبّاك ليغلق لتشير بأنها تصفعُهم، وتركلُ اﻷرض لتشير أنها ترفسُهم.
حالتُها تشبه حالتي حين أسألُ :لماذا اﻷلمانُ لا يتعلّمون العربيّة و الكرديّة كي نتفاهم معهم؟ وكأنهم هم في بلادنا ..لا نحن.
"أيّها الحاضرُ تحمّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيل، ثقلاء الظلّ".
قلتُ سأتفقّد المدينة جيّداً: نقلني خطوي مبتعداً عن الكنيسة التي يئِنُّ ناقوسُها كلما ابتعدتُ عنها.أسمعُ هذا اﻷنين الذي ورّثتُه من" تلك البلاد التي أحبُّها رغم خرابها اﻷخير"في وقت محدّد بكروبكه ترى عازفاً عجوزاً مع زوجته يعزف لحناً عربيّاً وبعد دقائق يعزف لحناً كرديّاً أو رومانياً أو فرنسيّاً...استفسرتُ عنه ، فقيل لي بأنّه يغيّر اللحن بحسب المارّة، فهو يعرفهم من خلال سحناتهم. أغلب ألحانه تُدخل الحزن إلى اﻷرواح، يبدو أنّه يعرف ما يفتقدونه، أو ليذكّرهم بأنهم غرباء..تائهون.عليكم أن تتخيّلوا:مساءٌ باردٌ وبلادٌ غريبة ولغةٌ أغرب وأشخاصٌ غرباء، والأهل واﻷصدقاء مرميّون في فيافي الدنيا وعليك أن تسمع يا غريب الدار لحناً حزيناً في هذه اﻷجواء.هبّ النسيمُ فهبّت اﻷشواقُ..وهفا إليكمُ قلبُه الخفّاقُُ....
"نشيد الفرح" لشيلر من تلحين بيتهوفن:
يصبحُ الشحّاذون إخوةَ اﻷمراء، أينما يرفرف جناحُكِ أيتها السعادة.أيتها الملايين كونوا متعانقين...خذوا هذه القُبلة إلى الدنيا." ها هو صديقي شيلر منتصبَ القامة يقفُ في وسط المدينة يطردُ الشمس بإصبعه عن سماء هذه المدينة الشّابّة.شيلر ..الرجل المهيب اﻷرعن الطمّاح:
يسدُّ مهبّ الشمس من كل وجهةٍ... ويزحمُ ليلاً شهبُه بالمناكب.
وقورٌ على ظهر الفلاة كأنّه.... طَوَال الليالي مفكرٌ في العواقب.
أضفتُ اسمي على الحجر الذي نُصِبَ عليه شيلر" عبداللطيف الحسيني مرَّ من هنا". كانت عشراتُ اﻷسماء والتواقيع تسبقني بكافة اللغات.كلُّها تركت أثراً، ومرَّ كلُّ واحدٍ في سبيله.وﻷنّي في مركز المدينة اﻵن تذكّرتُ شتاء 2021 حينها شاهدتُ تظاهرة بعشرات المشاركين"شباباً وفتيات" ولم أعلم لِمَ خرج هؤلاء وبِمَ يهتفون بلغتهم اﻷلمانية؟ فانضممتُ إلى الركب الغاضب المحتجّ مردّداً نفسَ الشعارات والحركات، وبعد أن تفرّق الجمعُ سألتُ شاباً: ما مطالب هؤلاء؟أجابني ﻷجل فتح المباغي المغلقة بسبب كورونا.
جميلٌ أنّ أحداً من الرقباء من أهل بلدي لم يرني بينهم!
....
من خلال تمثال شيلر في هانوفر" المدينة المنوّرة"أتعرّفُ عليها، ومن شيلر تتفرّعُ المدينةُ إلى كلّ اتجاه:اتجاه المبغى الذي أدار شيلر غاضباً ظهرَه إليه هو أكثر الاتجاهات سخونة وبَشَراً وخفوتاً في اﻷضواء، لو أردتَ أن تلتقي بشباب شرق المتوسط و فتيات المحيط اﻷطلس فستلتقي بهم وبهنّ ههنا.
ألوكُ الكلماتِ وأمجّها وأرميها للريح.
قبلَ أن تدخلَ إلى شوارع المبغى الخافتة الضوء لا تنسَ أن تمرَّ بساحةٍ تفوحُ منها روائحُ الحشيش،مدمنوه وبائعوه من شرق المتوسط،هؤلاء "أصدقاء السوء" يتكلّمون جميع اللغات.حين تقتربُ من محيطهم يهرعُ واحدٌ منهم إليك مقدّماً لك سيكارة حشيش مجّانية ليدرّبَ اتجاهكَ نحوَهم.
أقرأُ السكينة على وجوههم وأعلمُ أنّ في داخل كلّ واحدٍ منهم أمراً يعذّبُه ويقلقُه.
للصدق:طعم الماريوانا لا يُقاوَم، فكلّما ذقتَه طلبتَ المزيدَ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق